-A +A
حسن النعمي
نرجو الإفادة .. عبارة قديمة قدم التعاملات الإدارية في المرافق الحكومية، وربما علامة محلية مسجلة لا يحق لأي شعب من الشعوب الأخرى استخدامها إلا بإذن خطي من مرجعها.
مشكلة نرجو الإفادة تظهر في أكثر من وجه، منها أن المسؤول الذي يطلب الإفادة يفصح أنه غير مطلع على مشكلات إدارته، فيستمهل حتى يفهم! ولكن إذا فهم فلا تتوقع نجدة أو إغاثة تضر بإدارته، إنما تبدأ دوامة الإفادات إلى ما لا نهاية، وكأن الجميع في هذه الإدارة لا يفهمون واجبات إدارتهم.

نرجو الإفادة تحضر من الأعلى للأدنى، من المسؤول الأكبر في الإدارة إلى الأدنى منه، فيستمر تسلسل طلب الإفادة حتى أدنى مرتبة وظيفية في الإدارة حتى لو اقتضى الأمر طلبها من عامل الشاي أو مراسل المعاملات الذي ما يزال صامدا في إداراتنا الحكومية، رغم أننا في زمن المعاملات الإلكترونية، لكن تلك قصة أخرى.
ومنشأ هذه الصيغة تبدأ من مواطن له مظلمة في إحدى الإدارات، إما تأخير إنجاز معاملة، أو عدم تفهم طبيعة المشكلة، أو تغليب المزاج في النظر إليها، أو غيرها من الحجج، وبعد أن يضيق به الحال يقترح عليه أحدهم وقد يكون أحد العرضحالجية الذين يكتوون بلهيب الشمس في ظروف إنسانية مؤلمة. هذا الاقتراح يتضمن الذهاب لمسؤول الإدارة وتقديم شكوى يتظلم من تأخير معاملته، وبهذه الطريقة يحفظ حقوقه بدلا من أن تضيع دون معرفة الأسباب.
إذن صاحب الفضل في هذه الصيغة هو المواطن، فلولا جرأته على الشكوى وطلب حقوقه، لما فكر الإداري في التخلص بعبارة تمهله حتى يستوعب جرأة هذا المواطن الذي بدأ يجرب كيف يسأل عن حقوقه. وحتى يظهر المسؤول تعاطفه مع المواطن يلجأ إلى صيغة مسالمة ودودة تبقي رجاء المواطن، ولا تحل أمرا عالقا. يقتنع المواطن ويخرج من مكتب المسؤول الفخم وقد عقد الآمال العريضة على حل مشكلته، فالمديـر كتب على المعاملة «نرجو الإفادة»، عبارة لا بد أن لها جلالها وهيبتها التي تهز أكبر الموظفين تعنتا، ولا تنسوا أن هذه العبارة «نرجو الإفادة» وليست «راجعنا بكرة»، بمعنى أنها فورية النفاذ، واجبة في حل مشكلة المواطن !
تبدأ رحلة نرجو الإفادة قبل أن يجف حبرها، حيث تطير من مكتب لآخر، ومن قلم لآخر، وكل إفادة تأخذ أياما، فلا عجلة من الأمر لدى أي شخص معني بتسطير هذه الكلمة، فالكل يطلب الإفادة دون أن تصل إلى قرار. ورغم تذمر المواطن من راجعنا بكرة، إلا أنه يكتشف لاحقا أن عبارة نرجو الإفادة ليست أقل بطؤا ومراوغة من راجعنا بكرة، فكلها تسبح في زمن لا نهائي، قراره في النهاية مقبرة المعاملات الشهير، الارشيف. وقتها تستقر المعاملة، ويستريح المواطن أن معاملته حفظت ولم تتعرض للإهمال أو الإلقاء في سلة المهملات كما يسمع، وبعض السماع نميمة مذمومة.
أخطر ما في عبارة نرجو الإفادة لطافتها الزائدة، الدالة على التفخيم في نون النحن «نرجو»، كل هذا لأهل إدارة واحدة، يعرفون بعضا من سنوات، فكيف يكون الحال لمن كان خارجها !!
تنتمي عبارة نرجو الإفادة لعائلة عريقة من عائلات التعاملات الإدارية في مرافقنا، وهذه العائلة هي البيروقراطية أو الروتين، وهي صيغة تحمي هيبة الإدارة، وتشعر المواطن بالحاجة الدائمة إليها. وقد تحولت هذه الوسائل الإدارية إلى تقاليد لا بد أن تتوارثها أجيال الموظفين حتى ممن تعلموا فنون الإدارة الحديثة فلا يجب التفريط في هذه التقاليد. فرغم تعليم فنون الإدارة الحديثة في جامعاتنا ومعاهدنا إلا أن الأداء نفسه، بطء في الإنجاز، وغموض في المعلومات، واتكاء على الواسطة. هل المسألة لها علاقة بثقافة التعقيد وشوفة النفس على المواطن الذي لديه مصالح أخرى غير الغدو والرواح أياما من أجل إنجاز معاملاته ..
اللائق بالمواطن أن تخرج فرق من هذه الإدارات الخدمية من مكاتبها، والبحث عن مشكلات المواطن. وهو ما استشعرته الأحوال المدنية التي بدأت في تسيير سيارات مجهزة عبر برنامج «تقديـر» لخدمة المرضى وكبار السن بعيدا عن آليات الروتين الإداري. ففي دول كثرت سيارات مجهزة تجوب الشوارع بحثا عن مشكلات الناس والسعي لحلها، بينما إداراتنا تتفضل على المواطن بإيهامه بحل مشكلاته وتذيل معاملاته بنرجو الإفادة بطريقة تخلي مسؤوليتها ولا تلزمها بواجباتها.